أخرج ابن الـشـجـري في ( أمالـيه الحديثية )
بإسناده المتصل إلى إبراهيم بن عبد الله [ بن ] الجنيد [ الختَّلي ] قال :
سمعت رجلاً من البكَّائين النوَّاحين يقول :
واموتاه ، ليس من الموت مَنْجَى
كأني بالموت قد غاداني أو ماساناي - أي أتاني بالمساء -
وكأني عن قليل لا أُزَارُ ولا أُوتَى
وكأني عن قليل أُودِّع الدين والدنيا
وكأني عن قليل أتخذ القبر بيتا، واللحد مُتَّكَأ
وكأني عن قليل أُوَسَّدُ بِلَبِنةٍ وأُسْتَرُ بأخْرَى
وكأني عن قليل أُجاور أهل البِلَى
وكأني عن قليل أُجاور قوما جُفاة
واغفلتاه ... وَاهَوْلاه ...
أيُّ الأهوال أتذكَّر ؟ وأيها أنْسَى ؟
لو لم يكن إلا الموت وغُصَصُه ، وما بعد الموت أعظم [ وأدهى ]
إسرافيل لو قد نادى فأسمع النِّدَا ، لأزعجني غدا من ضيق لحدي وحيدا منفردا
مُتَغيِّر اللون شاخصا بصري ، مُقَلَّدًا عملي ، قد ألجمني عَرَقي
وتَبرَّأ الخليقة مني ، نعم : وأُمِّي وأبي ، نعم : ومَنْ كان له كَدِّي وسَعْيي
فبقيتُ في ظُلَم القيامة مُتَحيِّرًا ؟
فمنْ يقبل ندائي ، ومَنْ يُؤَمِّن رَوْعَتي ؟
ومَنْ يُطْلِقُ لساني إذا غَيَّبني في التراب ثم سألني عما أنتَ أعلم به مني
فإنْ قلتُ : لم أفعل !
[ قال ] : ألم أكن شاهداً أرى ؟
وإنْ قلتُ : قد فعلتُ ؟
فأين المهرب مِنْ عَدْلِك ؟ فمِنْ عَدْلِك مَنْ يُجِيرُني ؟ ومِنْ عذابك من يُنْجيني ؟
يا ذخري وذخيرتي ، وإن سألتُ غيرك لم يعطني ، فرضاك قبل لقائك ، ورضاك قبل نزول النار
يا لها من فظاعة ليلةٍ بِتُّها بين أهلي قد استوحشوا لمكاني عندهم ، وقد كانوا قبلُ يأنسون بِقُرْبِي
خَمَدْتُ فما أجبتُ داعيا ، ولا باكيا ، حين يبكون ميتا ، بين أظهرهم مُسَجَّى
ما كان همتهم حين أصبحوا إلا غاسلاً ، نزعوا خاتمي ، وجرَّدوا عني ثيابي ، ووضَّؤني لغير صلاة
حتى إذا فرغوا قالوا : جَفِّفُوه ، وقرَّبوا أكفانا فأدرجوني ، وأنا سطيح على أعواد المنايا إلى عسكر الموتَى ينقلوني
مرُّوا بي على الناس :
فَكَمْ ناظر متفَكِّر ؟ وآخرَ عن ذلك لاهٍ ؟
بكَى أهلي وأيقنوا أنها غيْبَتي لا يرجون لقائي ، نادوا باسمي فأسمعوا مَنْ حولي ولم يسمعوني
ولقد عَظمَ الذي إليه يحملوني ، نزل قبري ثلاثة كأنهم [ بذنوبي يطلبوني ]
فَدُلِّيتُ في أضيقَ مَضْجَعٍ ، وصار الرأس تحته الثَّرَى وبه وسَّدوني ،
فـــيـــا رب :
ارحم غُرْبتي ، وآنِسْ وَحْشتي ، وبَرِّدْ مَضْجَعي ، ونَوِّر في القبور قبري )
قلت :
كلما تبصَّرتُ حروف هذا الكلام ، وقلَّبْتُ في تأمل معانيه البصائر والأفهام
شَهَقْتُ شهقةَ النادم وتأسَّفْتُ تأسُّف المذنب الآثم !
ولقد خلوتُ به ليلا والناس نيام ، وجعلت أُرَدِّده تحت دَيَاجِي دَيَاجِير الظلام
فشعرتُ أن روحي وكأنها تخرج من جسمي ، وأحْسَسْتُ بِوَهِيج حرارة الأنفاس ما بين لحمي وعَظْمي .
فيا ويل نفسي حين يحين رمْسي ، ويا ويح روحي حين خروج روحي !
فبالله : كم في غياهب القبور من عيونٍ كَحيلةٍ قد أذابتْها غارباتُ الليالي والأزمان !؟
وكم : في حُفَر الأقفار من خُدُودٍ أسيلةٍ قد أكَلتْهَا حشراتُ الأرض وهَوامُ المكان ؟!
وكم هناك : من قُدودٍ جميلة قد صارت ترابًا يطَأَهُ كلُّ غادٍ ورائح !؟
بالله كم : من خُصُورٍ رشيقةٍ صارت رمادًا بعد أنْ بكَتْ عليها العيونُ وصاح الصائح !
فاللهم قد ساءتْ الظنون إلا منك ، وانقطعتِ الآمال بالبعد عنك !
وليس لدينا من الأعذار ، ما يحجب عنا أبواب النار !
فوا حسْرتاه على أيامٍ خلتْ بمعصيتكِ ، ووا طُولَ حُزْناه عل أوقاتٍ مضتْ في مخالفتك !
ووا فضيحتُنا منك يوم نلقاك ، ووا خِذْلاننا مِنْ سواد صحيفتنا يوم النشور !
ومَا لنا لا نَنُوحُ على أنفسنا وليس لنا مَنْ ينوح عليها سوانا ؟!
وما لنا لا نَنْدُب قبيح فعالنا وهي الجانية علينا بما يُفْسِدُ دنيانا وأُخْرَانا ؟
فاللهم :
إن كنا قد عصيناك سهوًا فقد غرَّنا عفوك !
وإن كنا قد خالفناك جهلا فقد خَدَعَنا حِلْمُك وكرمُك !
أيُّ عيشٍ يطيب وأنت علينا غاضب يا مولانا ؟
وأيُّ لذَّة تُسْتَساغ وأنت علينا ساخطٌ يا سيدنا ؟
فاللهم : توبةً نتخلَّصُ بها من تلك الأقذر !
وطاعةً مقبولةً نتقرَّبُ بها من منازل الأبرار ، ورحمة عاجلة نهرب ببركتها من لهيب لفحات نيران دار البوار
وقد أتيناك ونحن في قيود الذِّلة وسلاسل الإِسَار !
وليس لدينا ما نتشفَّع به إليك - ونحن منه على يقين - سوى توحيدك ، والإقرار بشرائعك ، والإيمان بنبيِّك
فهل أنت براضٍ يا مولانا ؟
فنسألك بك ألاَّ عذَّبت لسانًا ذَكَرَك ، أو قلبًا شَكَرك ، أو وجهًا سَجَدَ لك
أو جسدًا خرَّ لعظمتك ، أو عينًا بكتْ - ولو دمعة - من خشيتك .
ثم متى عهدناك لا تقبل التوبة ؟ ومتى شاهدناك لا تغفر الحَوْبة ؟
فنحن على الباب وإنْ طَرَدتَّنا !
ولسنا نغادر رحابك وإنْ أبعدتَّنا !
ولن نرضى منك بدون العفو عنا يا خالقنا وملاذنا.
وختامًا :
نسأل الله حُسْنها ... إذا بلغتْ الروح المنتهى .
فإنه بكل جميل كفيل ... وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وكتبه : العبد الفقير ، والجاني على نفسه بِويْلات الأمور :
أبو المظفَّر سعيد بن محمد السِّنَّاري القاهري ...
ذلك الأثيم العاثر .. سامحه الله .
ليست هناك تعليقات