إن الإيمان الحقَّ بالله إذا استحكم في القلب استحكامًا صادقًا
قذَفَ الله في ذلك القلب نورًا يشعُّ على صاحبه ، وهداية تدفعه لكلِّ خير
وإحساسًا يجعله يشعر بمن هم في حاجةٍ وكرب ، وهَمًّا يجعله يشعر بهموم الآخَرين من حوله
بل ويتعدَّى ذلك إلى أن هذا الإيمان الصادق والمعرفة الحقَّة بالله تصل بالعبد إلى أن يكون عبدًا ربانيًّا
يتكلم بكلام الله ، وينطق برحمات الله ، ويسعى إلى رحمة عباد الله ، ويتحوَّل إلى كتلة من النُّور
وشعاعٍ يشعُّ به على الناس بكل الخير ، وعظيم السرور ، فيلين الجانب ، ويُساعد المحتاج ، ويُطبِّب العليل
ويَصنع الخير ، ويُغلق الشَّر ، ويتحول إلى منارةٍ وشامة وعلامةٍ في دنيا أصابها الزمان بعطَبٍ في نفوسِ كثيرٍ من الناس
فصارت قاسية لا تتأثَّر ، ولا تتحرَّك حتى في مجرد محاولة تغيير النَّفس إلى ما فيه خيريَّتُها قبل خيرية الآخرين .
دعاء و رجاء :
اللهم ارزقنا إيمانًا حقًّا ، وصدقًا ، واجعلنا شامة وعلامة ، وأئمةً في كل ميدان ، ولا تجعلنا من القاسية قلوبُهم .
قال تعالى في سورة المؤمنون :
" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [ المؤمنون : 1- 11 ]
وقد منهجَت الآيات كوكبةً رائعة جميلة لبعض مقتضيات الإيمان وشرطيَّة الحصول على الفلاح الذي به وعد الكريمُ
الرحمن - سبحانه ذو الجلال والإكرام - وهي :-
• خشوعٌ في الصلاة .
• إعراض عن اللَّغو .
• إيتاء للزكاة .
• حفظ للفروج - إلا على الحلال -
الذي أباحه الله من الزَّوجات وما ملكَت الأيمان .
• رعاية وحفظ للأمانات .
• محافظةٌ على الصلوات .
روي عن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله لأصحابه : " هلمُّوا نزدَدْ إيمانًا " .
وكان سيدنا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يدعو فيقول : " اللهم زِدنا إيمانًا ويقينًا وفقهًا " .
الإخلاص طريقُ المؤمنين
والإخلاص عند المؤمنين طريقٌ لا غنى عنه؛ فهُم يجعلون الله غايتهم ومقصدهم من كلِّ صغيرة وكبيرة
يسعون ويعملون ، ويصلُّون ويعبدون ، ويفعلون الخيرات ؛ من أَجْل أن يرضى الله - وحده - عنهم
فهو المقصد من نيَّاتِهم وكل تحرُّكاتهم ، فهم قد فقهوا قول نبيِّهم : " إنَّما الأعمال بالنيَّات ، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى ... "
خلاصة :
إنْ كتب الله لعبده الإخلاص كُتب - بإذنه تعالى - مِن المؤمنين .
رجاء :
اللهم اجعل أعمالَنا لك خالصة ، ولوجهك متَّجِهة ، وعندك مُتقبَّلة ، وارزقنا بحقِّها رضاك .
صلاة المؤمنين :
إن المؤمنين في صلاتهم يخشعون ، وعليها دائمًا يحافظون .
إنَّها المُجاهَدة الضرورية التي يُمارسها المؤمنون في صلواتهم حتى اتَّصفوا بصفة المؤمنين .
فالخشوع في الصلاة ، والمحافظة عليها ..
ما هُما إلا تذلُّل للخالق ، وخوفٌ من شديد البطش ، وسُكونٌ إلى الرحمن الرحيم .
والخشوع في الصلاة ، والمحافظة عليها ..
ما هما إلا ثمرة لممارسات سبقَتْهما حتى أدَّت إليهما ، ووصفت المؤمنين بوصفيهما .
هكذا خشعوا ، وهكذا عليها حافظوا :
• استحضروا جلال الله وهيبتَه وعظَمتَه عند سماع صوت المؤذِّن يعلو : " الله أكبر"
وآمَنوا أنه سبحانه أكبَرُ مِن كلِّ عمل يمارسونه في وقت صلاتهم
فتركوا الأعمال ، وشدُّوا إلى الله الرحال ، وإلى مُصلاَّهم وقبلتهم .
• جلسوا باطمئنانٍ ، يستبشرون ببيعهم الذي بايعوا ؛ فلِقاء الجليل حان ، والأبواب فُتحت من الجنان
والهرب الأكيد للشيطان كان ، وإذا قضى الله الأجَل كان منه الرِّضا ، وحُسن الختام .
• استجمعوا تفكيرهم وطاقاتهم مع الإمام ، وتدبروا الآيات ، فوجدوا وعدًا ووعيدًا استدعى تعوُّذَهم منه
ووجدوا جنة ونعيمًا استدعى شوقهم وطلبهم وسؤالَهم .
• قلَّلوا من حركات الجسد أثناء الصلاة
وعلموا أنَّ من خشع قلبه خشعَتْ جوارحُه ، وسكنت عن الحركة ، وصارت معلَّقة بأعالي الجنان .
• استحضروا أنَّ هذه الصلاة التي يصلُّونها هي آخر ما سيكون من صلاةٍ ، فجعَلوها صلاةَ توديعٍ ووداع .
• أغلقوا هواتفهم المحمولة ؛ لإيمانهم بأنَّ الصلاة صلة بالله ، ومع الله ، ويجب قَطْع غيرها من الاتِّصالات مع الناس .
• نظروا محلَّ سجودهم ، ولم يلتفتوا يَمْنَة ولا يَسْرة ، وكأن على رؤوسهم طيرًا .
المحاسبة سَمْت المؤمنين :
ازداد المؤمنون إيمانًا بأن عاشوا عيش الصَّالحين الربانيِّين ، فداوموا على محاسبة أنفسهم حسابًا شديدًا
لإيمانهم بأنَّها الدواء من كل داء ، والشِّفاء من كل سقم وبلاء ، والمطهِّرة للبدن
والرَّافعة للشأن والقَدْر عند مليك مقتدِر ، بل عند كلِّ البشر ، وانتبهوا بأن الأيام مُسرعةُ
والشهر والشهران يتبع بعضهما بعضًا ، وكأنهما ينطويان طيًّا .
فكانت محاسبتهم شاملة لكلِّ مجريات اليوم من أمور تتعلَّق برب الجلال ، وأُخرى تتعلق بعباده - سبحانه وتعالى -
متذكِّرين في ذلك إمام التقوى عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما سُئل عن التقوى : ما التَّقوى يا إمام ؟
فقال : " هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتَّنْزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل " .
ولمَّا آمن المؤمنون بأهمية التقوى أوقفوا أنفسهم عندها وراجعوها ، فتحقَّقت فيهم خيريَّةٌ عظيمة .
دعـاء :
اللهم اجعلنا - يا جليلُ - مِمَّن يخافونك ، ويعملون حقًّا بِمُحكم تَنْزيلك ، ويقنعون بعطاء قليلِك
ويستعِدُّون ويشمِّرون ليوم رحيلِهم ، ولَحْظة خروج أرواحِهم ، ووقتِ إنزالهم إلى وحشة قبورِهم .
كيف يُحاسِب المؤمنون أنفُسَهم ؟
• إن المؤمنين يُحاسِبون أنفسهم على صلاة الفرائض ؛ أكانت على وقتها ، وبخشوعها ، وبحقِّها ؟
• إن المؤمنين يحاسبون أنفسهم على السُّنن الرَّاتبة
هل أتَمُّوها بثِنتي عشرة ركعة ليفوزوا بقصر في الجنة ؟؟
أم حرَموا أنفسهم من قصرهم في يومهم ؟
• المؤمنون إذا وقعوا في غيبة ونميمة
استغفروا وأنابوا ، ورجعوا ، وكفَّروا عن ذلك .
• المؤمنون إذا أساؤوا لأحد بفعالهم أو بألسنتهم
راضوهم وأكرموهم ، وتحببوا إليهم تحبُّبًا ، وتصافَوْا معهم تصافيًا
ولم يناموا يومَهم وهم يحملون بغضًا لغيرهم ؛ طمعًا في جنة ربِّهم .
• المؤمنون يتصدَّقون ويُنفقون لربِّهم ، ويحبُّون العمل لدينهم .
وهم خيرُ مَن يفقهون قولَه تعالى : " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ " [ التوبة : 111 ]
فأنفَقوا لتكون لهم الجنَّة ، وعملوا لدينه ؛ لينالوا شرف التأسِّي بالأنبياء ، لِتَربح بذلك تجارتُهم مع الله - عزَّ وجلَّ .
• المؤمنون إذا أذنَبوا استغفروا وتابوا
واستشعروا رضا ربِّهم ورحمتَه، ولَم يُسوِّفوا ولم يؤجِّلوا ولم يقولوا للإنابة والرجعة : غدًا موعدنا .
وهكذا راقبوا أنفسهم وحاسَبوها ؛ إيمانًا منهم ويقينًا بأنه مَن يُحاسِب اليوم نفسَه هان عليه الحسابُ يوم الحساب .
الاستقامة طموح المؤمنين :
فالمؤمنون ما إن ينتهوا من الطَّاعة إلا ويدخلون في غيرها ، ويُتَرجمون على الدوام بما تَحمله قلوبُهم من الإيمان
فالاستقامة ترجمة فعلية لإيمان القلوب ؛ " قل آمنتُ بالله ، ثم استقم " .
والمؤمنون يُكْثِرون من دعاء الفاتحة : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " [ الفاتحة : 6 ] .
وهم خيرُ مَن يعلمون قولَ خالقِهم : " وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " [ الجن : 16 ] .
خاتمة ودعاء :
اللهم إنَّك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلاَّ بك
اللهم أعطنا مِنها ما يُرضيك عنَّا ، واجعَلْنا من المؤمنين حقًّا وصدقًا
اللهم سيِّرنا ولا تُخيرنا ، اللهم خُذ منَّا ، وتولَّ أمرنا عنا
اللَّهم اشْغَلنا بك ، وهَبْ لنا هبةً لا سعة فيها لغيرك ، إنَّك أنت العزيز الوهَّاب .
اللهم اقطع عنَّا كلَّ قاطع يقطَعُنا عنك ، اللهم تَوَلَّنا ، ولا تُوَلِّ علينا غيرك
اللهم إنَّا نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، اللهم اجعلنا من المرحومين ، ولا تجعلنا من المَطْرودين .
اللهم يا من يَمْلك حوائج السَّائلين ، ويعلم ضمائر الصَّامتين ؛ فإن لكلِّ مسألة منك سمعًا حاضرًا، وجوابًا عتيدًا
ولكل صامت منك علمًا ناطقًا محيطًا ، نسألك برحمتك الواسعة أن تجعلنا من المؤمنين ، وعلى هَدْيِ سيِّد المرسلين
آمين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ...
ليست هناك تعليقات