نعم الإخلاص !!
ذاك الذى أعيى السلف وأقلق مضاجعهم فما ذاقوا للنوم طعماً وما تلذذوا بلذة حتى بشروا من الله بالقبول
فما الإخلاص ؟ وكيف تحدث عنه القرآن ؟ وما حال سلفنا الصالح معه ؟
ثم ما هي ثمراته في الدنيا والآخرة ؟ وهل لنا من سبيل لنحققه - بإذن الله تعالى - ؟؟!
نصحبكم في هذه السطور مع هذا الأمر العظيم ، فنبدأ بسم الله ..
أولا ً: تعريف الإخلاص
لغة ← هو مصدر أخلص يخلص وهو مأخوذ من مادة { خ ل ص } ، التى تدل علي التنقية والتهذيب .
وقيل :
هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وإعجاب الفاعل بنفسه .
وقيل : هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق .
وقيل : هو إستواء أعمال العبد فى الظاهر والباطن .
وقيل : هو ألا تطلب على عملك شاهدا ًغير الله تعالى .
ولا بأس بالجمع بين هذه الأقوال
إذ أن كل تعريف منها يشير إلى المعنى المراد من تعريف الإخلاص .
ثانياً : حديث القرآن الكريم عن الإخلاص
تحدث القرآن العظيم عن الإخلاص فى كثير من الأيات ليحث المؤمنين على الإجتهاد
فالإخلاص التجرد وتنقية العمل من سائر الشوائب التى تعكر صفوه وتكدر صفاءه
ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ .. } ( النساء : 146)
فالإخلاص فى الطاعة ترك الرياء ، وهو الداء العضال والسم القاتل الذى يفتك بمن تعاطاه
نسأل الله السلامة والعافية ..
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : هو أخلصه وأصوبه
قالوا يا أبا على : ما أخلصه وأصوبه ؟؟!
قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل
حتى يكون خالصاً صواباً ، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .
ثم قرأ قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ( الكهف : 110)
وهى الأعمال التى كانت على غير السنة أو قصد بها غير الله سبحانه ..!
فما أعظم خسارتهم ويا حسرة عليهم قد خسروا أنفسهم ..
قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } ( الفرقان : 23 )
وقال الملك سبحانه : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } ( الزمر : 3 )
أى العبادة الخالصة لله وحده دون الطواغيت والأنداد ..
وقال سبحانه : { .. وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ... } ( الزمر : 47 ، 48 )
فمن غفل عن الإخلاص فى الدنيا رأى حسناته يوم القيامة سيئات فما بعد هذا العذاب من عقاب !
فيا أخى / أختي
تأملوا كيف أن الإخلاص يعظم أجر صاحبه ، بدون عمل منه بل بمجرد النية الصالحة فقط
قال الصادق المصدوق : { من سأل الله الشهادة بصدق ، بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشة } (1)
وما أحلى وأجمل أن ندندن ونردد هذا الدعاء الجامع من كلام خير الناس وهو يستعيذ بربه من الشرك وهو المعصوم
- بأبى هو وأمى - حيث يقول : { اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا ً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه } (2)
ثالثـا ً : سلفنا الصالح والإخلاص
لله درهم أخلصوا فتخلصوا وعرفوا الطريق فسلكوه ..
وما حادوا عنه وما تركوه واجتازوا المفاوز والأهوال حتى عبروا شاطئ اليم بعد أن خاضوا فى لججه .
كان بعضهم يقول لنفسه : أخلصى تتخلصى .
وقيل للإمام سهل : أى شئ أشد على النفس ؟ قال : الإخلاص إذا ليس فيه لها نصيب !
رحمه الله هذا الكلام يصدر من مثله ! ومن يعرف للإخلاص طريقاً ومسلكاً إذ لم يعرفه هؤلاء ؟؟!!
وقال بعضهم : رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية .
وقال يحيى بن كثير : تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل !
نعم فالعمل يراه غيرك وربما أعجبت به أنت ، فيكون حظك يا مسكين إعجابك بعملك !
وقال الربيع بن خثيم : كل ما لا يراد به وجه الله ، يضمحل وهو إلى زوال لا محال
وقال بشر بن الحارث : ما اتقى الله من أحب الشهرة !
وقال بعضهم { أى بعض السلف الصالح } :
ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .
وقال بعضهم : تجارة العلماء تجارة النيات !
تعلموا كيف يتاجرون ويربحون على ربهم ، ما إنشغلوا بتجارة الدنيا فحسب
وإنما تاجروا مع ربهم فنعمت التجارة وربحت وما وراءها خسارة !
وها هو رجل من الأفذاذ الذين استناروا بنور الله يقول : إنى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى !
أبت نفسه إلا الإنشغال بالطاعة حتى وهو نائم !
نعم وذلك لما أخلصوا إختلطت الطاعة بدمائهم وأعصابهم فما صبروا عنها حتى فى غفلتهم ورقدتهم
وفى الأثر : لا تعملن عملا إلا بنية !
نعم وإلا كان العمل هباء ًا منثورا ً ..!
وجاء فى مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله : نقلا ً عن الفضيل بن عياض قال رحمه الله :
ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص : الخلاص من هاذين
وفى رواية : والإخلاص أن يعافيك الله منهما .
وكان الربيع بن خثيم يدخل عليه الداخل وفى حجره المصحف فيغطيه (3)
وبعضنا يود أن تسجل الإذاعات تلاوته إذا قرأ شيئا ًمن كلام الله !
وقال بشر بن الحارث رحمه الله : قد يكون الرجل مرائيا ً بعد موته يحب أن يكثر الخلق فى جنازته . (4)
لقد تميز أهل الرياء عن غيرهم حتى فى المقابر !
وأبلغ من ذلك قوله تعالى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } (التكاثر)
ولله در من قال :
أرى أهل القصور أذا أميتوا *** بنوا فوق المقابر بالصخورأبوا إلا مباهاة وفخرا *** على الفقراء حتى فى القبور
وهذا هو الإمام أبى حامد الغزالى رحمه الله وهو يحتضر فى الرمق الأخير إذ يطلب منه رجل النصيحة
فإذا بالإمام يردد : عليك بالإخلاص ، فلم يزل يكررها حتى فاضت روحه فرحمة الله عليه .
رابعا ً: من ثمرات الإخلاص
فى الدنيا
من أسباب النصر على الأعداء وهو أيضا ً سبب لمحبة الناسوهو سبب لنيل الثواب بدون عمل أحيانا ً كالذى يرجو الشهادة بقلبه وهو صادق فينالها بالنية فضلا ً من الله ونعمة .
فى الأخرة
يؤمن صاحبه من عذاب القبر ويتنعم فيه جزاء ً من ربك والجزاء من جنس العملوالإخلاص يؤمن صاحبه يوم الحشر وييسر حسابه ويستظل فى ظل الله ويرد حوض النبى الكريم يوم الزحام
فيالها من كرامات ..
خامساً وأخيرا ً : كيف نُحصِّل الإخلاص ؟
وهذا الذى أعيى السلف وأقلق مضاجعهم فما ذاقوا للنوم طعما ًوما تلذذوا بلذة حتى بشروا من الله بالقبول
فيا للبشرى !!
فالحياء من الله وتعظيم نظره إليك من أقوى الأسباب التى تعين على الإخلاص
فأى فائدة يحصلها المرائى بعمله إذا أسخط ربه فاستحق نعمته وعقابه .
والمراقبة أن تستشعر أن الله مطلع عليك فإن لم تكن تراه فهو يراك .
كما أن العبد إذا خاف يوم الزحام والعرض على الله يوم تبلى السرائر والسر عند الله علانية
فالسرائر مكشوفة { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ( سورة الملك : 14 )
إذا إستشعر العبد ذلك خاف من يوم الفضيحة أن يفضح على رؤس الأشهاد وينادى : يا مرائى يا كاذب !!
فهذا من أعظم الزواجر والله المستعان .
ولا ننسى أن نستعيذ بالله من الرياء والشرك كما علمنا النبى صلى الله عليه وسلم :
{ اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا ً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه } (5)
والله المستعان
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
________________________________________________________
(1) صحيح مسلم
(2) أحمد فى مسنده وصحيح الترغيب والترهيب
(3) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبى ( 260/4 )
(4) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبى ( 473/10 )
(5) الراوي : أبو موسى الأشعري ، المحدث : الألباني
ليست هناك تعليقات