والحكمة الإلهية تظهر في أن الله لا يؤاخذ الظالم من أول ظلمه ، فلو أخذه من أول مظلمة ولو حقيرة
لم تظهر سنة التأديب والاعتبار للآخرين لأن عقوبة الظالم في أول طريقه عقوبة لا يراها أحد لأنه ظالم صغير
والعقوبة الإلهية تكون بحجمها ، فلا يرى العقوبة إلا أهله ومن حوله وربما لا يشعر بها إلا هو فالاعتبارهنا ضعيف
ولكن يمهل الله الظالم ليترقى في الظلم ويرتفع فيه حتى يبلغ السماء فيراه ويسمع به من على الأرض شرقاً وغرباً
حينها يأمر الله به أن يُوضع ويهوي في أسفل سافلين ، فكلما ارتفع الظالم وعلا كان أبين لسقوطه والاعتبار به
ولهذا قال تعالى : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }
الألم والشدة مجتمعة لا تكون إلا بعد ارتفاع وعلو في الظلم
وهكذا ذكر الله لأخذ الظالمين في القرآن كله موصوف بنوع بطش وقسوة وهذا لا يتناسب مع مظلمة الدينار والدرهم
ومظلمة اللحظة والساعة لأن الله عادل ولا يُعاقب بعقوبة عظيمة على مظالم يسيرة .
وهذا ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »
فالإملاء إشارة إلى تتابع الظلم والترك الإلهي له ليرتفع الظالم فيسمع به البعيد والقريب ويلوح للرائي من بعيد
فترى عقوبته وتسمع من مكان رؤية الظالم والسماع به .
وفترة الإمهال الطويلة ينزل الله ظلم الظالم على الناس بحكمة
إما عقوبة لأفراد فيظلمهم الظالم بالزيادة على ما يستحقون
وإما ابتلاءً وتمحيصاً ورفعة وتكفيراً لآخرين وقد تجتمع هذه كلها
ولو عاقب الله الأفراد بمظالمهم التي يقعون بها لأول مرة لتنافى هذا مع الرحمة والعفو والصفح الإلهي
ولم يظهر اعتبار الآخرين بها لأنها خفية مستورة وإذا نزلت ربما لا ينسبونها لمظالمهم لحقارتها ولأن الإنسان جحود
فيتكاثر الظلم في حياة الناس ولا يراه العامة .
ولكن الله لحكمته البالغة يمهل الظالم ليعتبر به من في الأرض كلهم
ولو وكلهم إلى عقوبات الصغائر والكبائر اللازمة لما زادهم إلا تمرداً
ومن الناس من لا يعتبر بكل عبرة إلا بالعبرة به هو
ولهذا قال تعالى :
{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد
لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين }
وقال علي رضي الله عنه : ( ما أكثر العبر وأقل الاعتبار )
تحميل المقال :-
كتبه : الشيخ عبد العزيز الطريفى
ليست هناك تعليقات