العقبة الثالثة في عقبة العوائق هي عائق الدنيا
فإن الرغبة بالدنيا وما فيها يعيق دعوتنا إلى الله تعالى
فالداعية عليه أن يكون زاهداً في الدنيا ومافيها والزهد يعني دفعها والتجرد عن حبها والتعلق بها
وإنما الزهد بها لازم على كل مؤمن عابد بشكل عام وكل داعية بشكل خاص ، فهذا لأمرين :
الأول : حتى تستقيم العبادة و تكثر ولا تتوقف
فإن الرغبة في الدنيا يشغلنا عن العبادة وعن الدعوة إلى دين الله تعالى
كيف يشغل ؟
إما ظاهرياً بالطلب أو باطنياً بالإرادة وحديث النفس ، وكلاهما يمنع العبادة
فإن النفس واحدة والقلب واحد فإذا اشتغل بشيء انقطع عن ضده
وإن مثل الدنيا والآخرة كمثل الضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى
وإنهما كالمشرق والمغرب بقدر ماتميل إلى أحدهما أعرضت عن الآخر
فعن أبي الدرداء قال :
زاولتُ أن أجمع بين العبادة والتجارة فلم يجتمعا فأقبلت على العبادة وتركت التجارة ( زاولتُ : مارستُ )
وأما شغل القلب بها وهو الباطن لمكان الإرادة
قال صلى الله عليه وسلم :
( من أحب دنياه أضرّ بآخرته ، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه ، فآثروا على ما يبقى على ما يفنى )
فبانَ لنا أنه إذا اشتغل ظاهرنا بالدنيا من لباس ومأكل ومشرب ومسكن ومفاخرة وباطننا وهو الإرادة
أصبحنا نحب الدنيا وننفتن بها وتغرينا ونفكر بها ، فلايتيسّر لنا حق العبادة المتفرغة والمتجردة لله
أما إذا زهدنا بها وتفرّع باطننا وظاهرنا منها يسّر الله لنا أمور عبادتنا والتي منها الدعوة إلى المولى سبحانه وتعالى
( اللهم قنا شر نفوسنا ووسوسة الشيطان وزينة الدنيا ومفاتنها )
ثانياً : أن الزهد من الدنيا يكثر قيمة عملنا فيعظم قدر وشرف هذا العمل
قال تعالى : (( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً )) ( القصص )
وقال تعالى :
(( مَن كانَ يُريدُ حَرثَ الآخرةِ نُزد لهُ في حرثهِ
ومَن كان يُريد حرثَ الدنيا نُؤته منها ومَاله في الآخرةِ من نَصيب )) ( الشورى )
والزهد لا يكون إلا في الفضول من الدنيا مما لاحاجة لنا فيه في قوام البنية
وقوام البنية هي القوة التي تعيننا على التعبد فنأخذ من الدنيا مانحتاجه ولا نتعلق بما لا نحتاجه
قال تعالى : ( فأَعرِض عَن مَن تَوَلَّى عَن ذِكرِنا وَلَم يُرِد إلا الحَياة الدُّنيا * ذلكَ مبلَغهم منَ العلم ) ( النجم )
وحدود الحاجة يقدّرها المسلم بقدر لا زيادة فيه ولا نقصان ، وحاجته تكون من الطعام والشراب والكساء
مما أحله الله تعالى ، ويقصد بطعامه وشرابه وجميع ما بأخذه من هذه الدنيا وجه الله تعالى فعندما يأكل
يأكل ليتقّوى على طاعة الله تعالى
وعندما يشتري السّكن يقصد فيه وجه الله تعالى الذي أمرنا بالستر
وعندما يتزوج يقصد بزواجه العفاف وبذلك يصبح قصدنا وسعينا عبادة وطاعة لله
ولنحذر من التعلق بزينة الحياة الدنيا فكم من الدعاة قد فتنتهم دنياهم عن دعوتهم
ولنتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( مالي وللدنيا ؟ إنما مَثلي وَمثل الدنيا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها ) ( رواه الترمذي وابن ماجة )
هذه هي الدنيا نستظل تحت أفيائها لحظات ثم نرحل ، فإما راحلون عنها وإمازائلة عنا
وقال عيسى عليه السلام : الدنيا قنطرة ، فاعبروها ولا تعمّروها
فإن الدنيا معبر للآخرة
والمهد : هو الركن الأول على أول القنطرة ، واللحد : هو الركن الثاني على آخر القنطرة
ومن الناس من قطع نصف القنطرة
ومن الناس من قطع ثلثها
ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها
ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله .
وقيل : إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة .
فقال لها : كم تزوجتِ ؟
قالت : لا أحصيهم .
قال : فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟
قالت : بل كلهم قتلت
فقال عيسى عليه السلام :
بؤساً لأزواجك الباقين !!
كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه: قال :
يوتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها مشوه خلقها فتشرف على الخلق
فيقال : هل تعرفون هذه ؟
فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه
فيقال : هل ترون هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم
ثم تقذف في جهنم فتنادي : يارب أين أتباعي وأشياعي ؟
فيقول : ألحقوا بها أتباعها وأشياعها
وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدنيا سجن المؤمن ، جنة الكافر) رواه الترمذي
وقال عليه الصلاة والسلام : ( لوكانت الدنيا تعدل عند اله جناح بعوضة ماسقى منها كافراً شربة ماء ) رواه الترمذي
وفي حديث آخر : (( الدنيا ملعونة ، ملعون مافيها إلا ما كان لله منها )) رواه الترمذي وابن ماجة
فلنحذر من دار الغرور ولنخلص عملنا لله تعالى ونرجو منه الثبات
ولنبتعد عن الأماكن التي تنمّي حس الدنيا ووازع حبها والتعلق بها
ولنصاحب العمل الصالح فهو من سيرافقنا في برزخنا
اللهم إنا نسألك حسن الختام
ليست هناك تعليقات